سوريا- أجندات أمريكية إسرائيلية متضاربة نحو تقسيم وهيمنة

منذ أن اندلعت شرارة الثورة السورية في عام 2011، انتهجت كل من الولايات المتحدة وإسرائيل مسارات متوازية ولكنها متباينة في الأراضي السورية، مدفوعة بأهداف إستراتيجية راسخة، وتنافسات إقليمية محمومة، وديناميكيات جيوسياسية متقلبة.
في صميم هذا التلاقي، يكمن مشروع أوسع نطاقًا يهدف إلى تقويض الدولة السورية الموحدة ذات السيادة، والحيلولة دون قدرة أي طرف إقليمي أو دولي على تحدي النفوذ الأمريكي والإسرائيلي في منطقة الشرق الأوسط.
بينما تركز الولايات المتحدة على الحفاظ على تفوقها الجيوسياسي وحماية مصالحها الحيوية في قطاعي الطاقة والأمن، تسعى إسرائيل جاهدة إلى تقسيم سوريا إلى دويلات طائفية وعرقية متناحرة، وذلك في إطار إستراتيجية قديمة العهد ترمي إلى تمزيق العالم العربي وتكريس هيمنتها الإقليمية المطلقة.
إستراتيجية إسرائيل العريقة في التقسيم
إن النهج الإسرائيلي تجاه سوريا والمنطقة العربية ليس وليد اللحظة، بل يعود بجذوره إلى بدايات نشأة الكيان الإسرائيلي، حيث دعت وثائق إستراتيجية داخلية صدرت عن وزارة الخارجية والموساد في خمسينيات القرن الماضي إلى إنشاء دولة كردية مستقلة لتكون بمثابة حاجز صد أمام المد القومي العربي المتصاعد الذي كان يجتاح المنطقة في ذلك الوقت.
وقد تجسد هذا التصور لاحقًا في "خطة ينون" سيئة السمعة التي وضعت في عام 1982، والتي صاغها أوديد ينون، المسؤول السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية.
دعت الخطة صراحة إلى "تفكيك سوريا… إلى كانتونات منفصلة على أسس دينية وعرقية… [معتبرة أن سوريا هي] الخطر الرئيسي الذي يهدد إسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى الطويل… وبالتالي، يجب تقسيمها إلى عدة دول صغيرة وفقًا لتركيبتها الطائفية والإثنية المتنوعة".
أكدت "خطة ينون" أن أمن إسرائيل وريادتها يعتمدان بشكل أساسي على تفتيت الدول العربية إلى كيانات طائفية وعرقية صغيرة الحجم، مثل الدروز والعلويين والأكراد والموارنة والأقباط وغيرهم من الأقليات.
كان الهدف الأسمى هو استبدال الدول العربية القوية والمتماسكة بدويلات ضعيفة ومشتتة لا تشكل أي تهديد لأمن إسرائيل، بل يمكن تحويلها لاحقًا إلى حلفاء أو وكلاء يخضعون للحماية الإسرائيلية الكاملة.
وفيما يتعلق بسوريا، تتضمن هذه الإستراتيجية تقسيم البلاد إلى أربع مناطق نفوذ رئيسة:
1- دولة درزية: تتمركز في محافظة السويداء جنوب سوريا، حيث تأمل إسرائيل في إقامة كيان درزي متحالف معها بشكل وثيق.
2- دويلة علوية: تقع في المنطقة الساحلية السورية وتحظى بحماية روسية، وتتركز حول مدينتي اللاذقية وطرطوس.
3- منطقة كردية: تقع في الشمال الشرقي وتحظى بدعم أمريكي، وتسيطر عليها قوات "قسد" التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD/YPG).
4- حزام سني عربي: يقع تحت النفوذ التركي، ويمتد على طول الحدود الشمالية والشمالية الغربية والقلب السوري.
تخدم هذه الخطة التقسيمية المصالح الإسرائيلية بشكل مباشر، حيث تحافظ على سوريا ضعيفة وممزقة وغير قادرة على القيام بدورها كفاعل إقليمي يدعم المقاومة الفلسطينية أو يعارض التوسع الإسرائيلي.
لقد كان هذا التوجه هدفًا ثابتًا للمفكرين الصهاينة على مر العصور. ففي عام 1992، كتب برنارد لويس، أحد أكثر المفكرين تأثيرًا في الأوساط الإسرائيلية والأمريكية: "إن معظم دول الشرق الأوسط… معرضة لمثل هذه العملية [أي "اللبننة"]، فإذا ما تم إضعاف السلطة المركزية بما فيه الكفاية… فإن الدولة ستتفكك إلى فوضى عارمة من الطوائف والقبائل والمناطق والأحزاب المتناحرة".
تدمير إسرائيل الممنهج للقدرات العسكرية والإستراتيجية السورية
منذ عام 2013، نفذت إسرائيل مئات الغارات الجوية على أهداف داخل الأراضي السورية، غالبًا تحت ستار استهداف مواقع تابعة لإيران أو حزب الله. وبعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كثفت إسرائيل عمليات اغتيال قادة من إيران وحزب الله على الأراضي السورية.
أدت هذه الهجمات أيضًا إلى تدمير ممنهج لأنظمة الدفاع الجوي السورية، ومخازن الأسلحة، والقواعد العسكرية، ومراكز البحوث العلمية. كان الهدف واضحًا وجليًا: منع سوريا من إعادة بناء قدراتها العسكرية وفرض تفوق عسكري ونفسي دائم لإسرائيل، بالإضافة إلى استعادة قدرتها على الردع في المنطقة.
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024، تصاعدت الهجمات الإسرائيلية لتشمل احتلال أكثر من 400 كيلومتر مربع من الأراضي السورية، بالإضافة إلى الجولان المحتل، مع استمرار استهداف القدرات العسكرية السورية والبنية التحتية الحيوية.
لم يكن هذا التدمير يهدف فقط إلى ردع إيران والجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى، بل أيضًا إلى ضمان عدم عودة سوريا كدولة موحدة أو بقائها جزءًا من محور الممانعة والمقاومة.
ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول: إعادة رسم خارطة المنطقة
في أعقاب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول على إسرائيل وردها الوحشي الذي تجسد في ارتكاب إبادة جماعية في غزة، اهتزت عقيدة الردع الإسرائيلية بعنف.
في إطار هذا الرد، وسعت إسرائيل حملتها ضد ما يسمى بمحور المقاومة، مستهدفة حماس، والجهاد الإسلامي، وحزب الله، والجماعات المتحالفة معها في لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، وإيران.
صرح القادة الإسرائيليون علنًا أن هذه اللحظة تمثل فرصة تاريخية لإعادة تشكيل المنطقة، والقضاء على التهديدات، واستعادة الردع، وتغيير قواعد الاشتباك، وتحقيق عمق إستراتيجي.
في ظل هذا الوضع، كثفت إسرائيل هجماتها على سوريا، بما في ذلك قصف دمشق وحمص والسويداء، بهدف منع سوريا من أن تصبح قاعدة للمقاومة أو حليفة لها، كما استغلت الفوضى الإقليمية لتعزيز خطط التقسيم.
ومن أجل زيادة زعزعة الاستقرار في سوريا والمنطقة ككل، ترافقت كل هذه العمليات مع سياسات التجويع الجماعي والإبادة في غزة بهدف تهجير سكانها، بالإضافة إلى استخدام سياسة القصف والاغتيالات المستمرة لكوادر حزب الله في لبنان.
الأجندة الأمريكية: الهيمنة من خلال الفوضى المنظمة
تتفق الإستراتيجية الأمريكية في سوريا مع إستراتيجيتها الكبرى التي تم تبنيها بعد الحرب الباردة: منع ظهور أي قوة -إقليمية أو عالمية- قادرة على تحدي الهيمنة الأمريكية المطلقة.
خلال الحقبة السابقة، نظرت واشنطن إلى سوريا، ولا سيما في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، كدولة تابعة للاتحاد السوفياتي وداعمة للتيار القومي العربي، والمقاومة الفلسطينية، والتحالفات المعادية للنفوذ الأمريكي.
وبعد غزو العراق عام 2003، سعت الولايات المتحدة إلى عزل سوريا ومنعها من ملء الفراغ الإقليمي الذي خلفه سقوط نظام صدام حسين.
ومنذ اندلاع الانتفاضة السورية في عام 2011، تبنت الولايات المتحدة سياسة "الانخراط الانتقائي"، حيث دعمت القوات الكردية في الشمال الشرقي بحجة محاربة الجماعات المتطرفة وتقليص النفوذ الإيراني، بينما سمحت لإسرائيل بشن هجمات مستمرة لتقويض القدرات العسكرية السورية والإيرانية.
على الرغم من أن واشنطن تبدو داعمة لتقسيم فعلي لسوريا، إلا أن هدفها ليس بالضرورة تحقيق تقسيم إثني أو طائفي على النمط الإسرائيلي، بل الحفاظ على وجود لها طويل الأمد، ومنع روسيا وإيران من السيطرة على شرق البحر الأبيض المتوسط، وضمان بقاء أي حكومة سورية مستقبلية خاضعة أو موالية للمصالح الأمريكية.
تصعيد السويداء: الطموحات الإسرائيلية في المنطقة الدرزية
برزت خطورة التصعيد الأخير في السويداء، المدينة ذات الأغلبية الدرزية في جنوب سوريا، في زعزعة الاستقرار الداخلي السوري. وقد حاز الوضع الهش والاقتتال الداخلي على اهتمام إسرائيلي متزايد في سعيه لإقامة كيان حليف له على حدوده الشمالية.
تشير التقارير إلى أن فصائل درزية موالية لإسرائيل كانت قد أثارت أعمال الشغب في السويداء، مستغلة المظالم الاقتصادية والاجتماعية. وبينما دعت الولايات المتحدة إلى التهدئة واحترام وحدة الأراضي السورية، إلا أنها لم تدين التدخل الإسرائيلي علنًا.
تعكس الأهداف الإسرائيلية في السويداء جوهر "خطة ينون" الأوسع نطاقًا: بناء تحالفات مع الأقليات العرقية والدينية -مثل الدروز- الذين قد يفضلون الحكم الذاتي تحت الحماية الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن المجتمع الدرزي منقسم بشدة، حيث يرفض الكثيرون التدخلات الخارجية ويؤكدون ولاءهم الكامل للدولة السورية.
التباين الأمريكي الإسرائيلي حول القضية الدرزية
بينما تسعى إسرائيل جاهدة إلى إنشاء كيان درزي في جنوب سوريا، تظل السياسة الأمريكية حذرة للغاية. فهي تدرك أن دعمًا علنيًا لمثل هذه الخطوة قد يثير ردود فعل عنيفة في الأردن ولبنان، بل وحتى بين الدروز داخل إسرائيل نفسها، الذين قد يرفضون أن يكونوا مجرد أدوات في يد السياسة الإسرائيلية. كما تخشى واشنطن من أن يؤدي تقسيم سوريا إلى تعزيز قوة الجماعات الإسلامية المتطرفة أو تمكين النفوذ الإيراني والروسي.
لذلك، تفضل الولايات المتحدة سوريا منقسمة ولكن غير منهارة بالكامل، حيث يمكنها الحفاظ على نفوذها دون إثارة فوضى إقليمية واسعة النطاق. أما إسرائيل، فهي على استعداد لتقبل -بل وحتى تغذية- الفوضى إذا كان الثمن هو القضاء على التهديد السوري إلى الأبد.
دور تركيا: ترسيخ النفوذ الإستراتيجي
تلعب تركيا دورًا محوريًا في إعادة رسم ملامح سوريا الجديدة. فبعد أن دعمت المعارضة والفصائل المسلحة خلال سنوات الثورة السورية بهدف الإطاحة بنظام الأسد، غيرت أنقرة إستراتيجيتها بعد فشل هذه المحاولات، وتركزت جهودها على منع إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية.
دخلت القوات التركية إلى شمال سوريا وقامت بدعم الميليشيات العربية والتركمانية السورية للحد من النفوذ الكردي. ولكن منذ سقوط بشار الأسد، أصبحت تركيا هي الداعم الرئيسي للنظام السوري الحالي.
تتعارض المصالح التركية بشكل صارخ مع السياسات التي تنتهجها الولايات المتحدة وإسرائيل، اللتين تركزان على دعم الميليشيات الكردية والانفصاليين الدروز. وتعتبر أنقرة أن أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي يمثل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ووحدتها الداخلية.
وقد صرح وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مؤخرًا بسياسة تركيا الصارمة تجاه جميع محاولات تقسيم أو تجزئة سوريا، حيث قال: "ستتدخل تركيا بحزم ضد أي محاولة لتقسيم سوريا أو منح الجماعات المسلحة حكمًا ذاتيًا… نحذر الجميع: لا ينبغي لأي طرف الانخراط في مشاريع تقسيم".
رسم جديد لخريطة سوريا: صراع محتدم على مستقبل المنطقة
تنطبق مقولة شهيرة لأحد مؤسسي علم الجيوبوليتيكا، السياسي والمفكر البريطاني هالفورد ماكيندر، على الوضع في سوريا، حيث يقول: "من يحكم أوروبا الشرقية يسيطر على قلب العالم؛ ومن يحكم قلب العالم يسيطر على جزيرة العالم؛ ومن يحكم جزيرة العالم يسيطر على العالم".
وبالمثل، تحتل سوريا موقعًا إستراتيجيًا في قلب العالم العربي، حيث تسيطر على طرق التجارة والتحالفات الإقليمية، تمامًا كما هو الحال مع "قلب العالم" في نظرية ماكيندر. وتؤمن القوى الإقليمية والعالمية بأن من يسيطر على سوريا، أو على جزء كبير منها، سيمتلك القدرة على التأثير بشكل كبير على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
في هذا السياق، تنفذ الولايات المتحدة وإسرائيل سياسة ذات شقين في سوريا. فبالنسبة لواشنطن، سوريا هي مجرد رقعة شطرنج تهدف إلى منع الخصوم، وحماية الهيمنة على البترودولار، وضمان موقع حليفتها الوثيقة إسرائيل دون الانزلاق إلى الفوضى. أما إسرائيل، فترى في سوريا تهديدًا وجوديًا يجب تفكيكه وإعادة تشكيله إلى فسيفساء متناثرة من الدويلات المتناحرة.
يكمن الخطر الحقيقي في المعاناة المستمرة التي يعيشها الشعب السوري، وتآكل الأمن القومي العربي ومفهوم السيادة العربية، واحتمالية اندلاع صراعات إقليمية أوسع نطاقًا. وما لم تشكل القوى الإقليمية -وخاصة تركيا، إلى جانب إيران والدول العربية المحورية- ردًا منسقًا وموحدًا، فقد يصبح تفكيك سوريا أمرًا واقعًا، مما يحقق المخطط الصهيوني القديم المتمثل في خلق شرق أوسط مفكك ومجزأ ومهيمن عليه بشكل كامل.